الطب
لاريب في أن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام)، كان على إلمام تام بالطب وما يتعلق به. وقد تحدث وأبان، في ما روي عنه، عن الطبائع والأمزجة، وعن الأشياء ومنافعها ومضارها، مما يثبت وقوفه على هذا العلم. وقد جمع بعض علماء السلف شيئاً كثيراً من آراء الأئمة في الطب وسموه (طب الأئمة). ويروي المجلسي (قد) الكثير عن هذا الكتاب في كتابه (بحار الأنوار)، وكذلك الشيخ الحرّ العاملي في (وسائل الشيعة)، إلا أن هذا الكتاب لا وجود له اليوم. وقد خصص الإمام الصادق (عليه السلام) في ما ألقاه على المفضّل بن عمر الجعفي فصلاً تحدّث فيه عن الطبائع وفوائد الأدوية وتشريح الجسم ومعرفة وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا). وفي ثنايا كتب الأحاديث وما إليها حديث مستفيض من كلام الإمام الصادق (عليه السلام) عن خواص الأشياء وفوائدها وعلاج الأمراض والأوجاع والحمية الوقائية. وسنورد بعض هذه الأحاديث للتدليل على هذا القول تدليلاً قاطعاً. قال محمد بن مسلم سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما وجدنا للحمى مثل الماء البارد. وفي حديث آخر: الحمّى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء البارد. وفي وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل قال: إن لكل ثمرة سما، فإذا أتيتم بها فامسكوها واغسلوها بالماء، وفي (الكافي) عن أحمد بن محمد عن بعض أصحابه قال: كنت أجالس أبا عبد الله (عليه السلام) فلا والله ما رأيت مجلساً أنبل من مجالسه. قال: فقال لي ذات يوم: من أين تخرج العطسة؟. فقلت: من الأنف. فقال لي: أصبت الخطأ. فقلت جُعلت فداك، من أين تخرج؟ فقال: من جميع البدن، كما وأن النطفة تخرج من جميع البدن... أما رأيت الإنسان إذا عطس نفض أعضاءه؟. وهذا ابن ماسوية، أشهر أطباء عصره، ينصت للإمام الصادق (عليه السلام) في شرحه وتوضيحه للطبائع وعلى الأمراض. وحدث أبو هفان في محضر ابن ماسوية بأن جعفرا بن محمد (عليه السلام) قال: الطبائع أربع: الدم وهو عبد، وربما قتل العبد سيده، والريح، وهو عدو، إذا سددت له بابا أتاك من آخر. والبلغم وهو ملك يُدارى، والمرة، وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها. فقال ماسوية: أعد عليّ، فوالله ما يُحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف. وهذا طبيب المنصور يحضر عنده ليقرأ عليه كتاب الطب، فإذا به يحضر مرة وعنده الصادق (عليه السلام)، فجعل ينصت لقراءته، فلما فرغ، قال: يا أبا عبد الله، أتريد مما معي شيئاً، قال: لا، لأن ما معي خير مما هو معك. قال: ما هو؟ قال: أداوي الحار بالبارد، والبارد بالحار، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وارد الأمر كله إلى الله، واستعمل ما قاله رسول الله وأعلم أن المعدة بيت الأدواء وأن الحمية هي الدواء، وأعود البدن ما اعتاد. قال (الطبيب) وهل الطب إلا هذا؟ قال الصادق: أتراني عن كتب الطب أخذت؟ قال: نعم. قال: لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه وتعالى. فأخبرني: أأنا أعلم بالطب أم أنت؟ قال: سل. فسأل عشرين مسألة، وهو يقول لا أعلم. فقال الصادق (عليه السلام): ولكني أعلم وبدأ بشرحها وتفصيلها. وهذا مذكور في كتب الحديث. وقد فصّل (عليه السلام) الحديث على الهيكل العظمي والأعصاب والجوارح في جسم الإنسان وشرحها شرحاً دقيقاً عندما سأله الطبيب النصراني عن ذلك. فقد روى سالم الصرير: أن نصرانياً سأل الصادق (عليه السلام) تفصيل الجسم، فقال (عليه السلام): إن الله تعالى خلق الإنسان على اثني عشر وصلاً، وعلى مائتي وستة وأربعين عظماً، وعلى ثلاثمائة وستين عرقاً. فالعروق هي التي تسقي الجسد كله، والعظام تمسكها، والشحم يمسك العظام، والعصب يمسك اللحم. وجعل في يديه اثنين وثمانين عظماً في كل يد واحد وأربعون عظماً، منها في كفه خمسة وثلاثون عظماً، وفي ساعده اثنان، وفي عضده واحد، وكتفه ثلاثة وكذلك الأخرى. وفي رجله ثلاثة وأربعون عظماً، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظماً، وفي ساقه اثنان، وفي ركبته ثلاث، وفي فخذه واحد، وفي وركه اثنان، وكذلك في الأخرى. وفي صلبه ثماني عشرة فقرة، وفي كل واحد من جنبيه تسعة أضلاع، وفي عنقه ثمانية، وفي رأسه ستة وثلاثون عظماً، وفي فيه ثمانية وعشرون واثنان وثلاثون. ولا يتسنى تفصيل الجسم البشري والهيكل العظمي بهذه الدقة إلا لمن أتيحت له فرصة دراسة الطب والتشريح. وقد أفاد الإمام (عليه السلام) غيره بهذا العلم، وتخرج من مدرسته هذه عدد من أصحابه. ومن خريجي مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) العلمية في مجال الطب والصيدلة جابر بن حيّان الطرطوسي. فهو بالإضافة إلى تخصصه في الكيمياء صنف مؤلفات في الطب أورد منها ابن النديم: (رسالة في الطب) و (كتاب السموم) و (كتاب المجسة) و (كتاب النبض) و (كتاب التشريح). وكان جابر بن حيّان أول من أشار إلى طبقات العين، فسبق بذلك يوحنا ابن ماسوية المتوفي سنة (243 هـ)، وسبق حنين ابن إسحاق المتوفي سنة (264 هـ)، وهما من أعلام الطب في هذا العصر. ومن أبناء هذه المدرسة أبو علي الحسن بن فضل، وهو من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) ومن علماء علم الشيعة العظام في عصره الذين برعوا في علم الطب وألفّوا فيه. ومن مؤلفاته (كتاب الطب) و(كتاب النجوم).