ماذا فقدنا بعد الرسول صلى الله عليه وآله..؟
رؤية في الماضي والحاضر
بين التراث والتاريخ
هناك فرق بيّن، بين التاريخ والتراث
التاريخ: ذاكرة الأمس، وحركة سائرة إلى الإمام، لا تتوقف، ولا تتكرر أحداثها وإن بدت متشابهة في بعض أو اكثر ظواهرها، لذلك من الخطأ القول أن التاريخ يعيد نفسه، بل الصحيح أن نقول أن الأحداث والوقائع تتشابه في أطرها العامة وبعض فروعها بنسب متفاوتة، وربما تتطابق في بعض الأحايين، ولكن يبقى منفذوها وصانعوها وأبطالها مختلفين..
ونستطيع أن نمثل لذلك بالأحداث التي جرت لرسول الله(ص) ولأمير المؤمنين(ع) عند توقيع وثيقة الصلح مع قريش (صلح الحديبية) وعقد الهدنة مع معاوية (بعد وقعة صفين)، وكيف أن قريشاً ومعاوية أصرا على كتابة اسمي الرسول والإمام صلوات الله عليهم مجرداً عن الرسالة والإمامة، فالأحداث في مفصلها هذا تحديداً وإن بدت متشابهة إلى درجة التطابق، إلا أن مكانها وأطرافها تبقى مختلفة.
والتراث: هو محصلة مجموع العقائد والعلوم والقيم والآداب والتقاليد والفنون التي تراكمت في ذاكرة التاريخ. وهو أيضاً محصلة جهود الماضين وابداعاتهم، وأدوار العظماء وصياغاتهم، فإليهم يعود بناء مجد الأمة وتاريخها وعزها، وعلى سيرتهم يأمل ترميم كيانها، فالبطل هو الذي يصنع تاريخ أمته وهو الذي يسيطر على اكبر مساحة واقعية في ذاكرتها.
وإذا أريد لهذه الأمة أن تحصل على موضع قدم في عالم تتحكم في عمالقة وتكتلات فلا مفر إلا بالعودة إلى السيرة العطرة لرسول الإنسانية محمد(ص) والتراث العظيم الذي تركه لنا والذي ينسجم مع نواميس الكون إلى قيام الساعة، فهو الوحيد الذي يمدنا بعناصر القوة، ويرسم لنا الصورة المستقبلية لأمة الغد.
وإذا نظرنا إلى الحقبة آنفة الذكر ـ تحديداً ـ نظرة موضوعية، وحددنا مفاصلها الحية وجوانبها المضيئة، وأخذنا بها وسرنا على نهجها لأمكننا ترميم الكثير من تداعياتنا وعلاج العديد من عللنا.
ربما نختلف في نظرتنا للحكومات التي جاءت بعد حكومة رسول الله(ص) ، ولكننا نتفق على أن حكومة الرسول(ص) هي المثال الذي لا يرقى إليه الشك، والمعيار الأول عند الحكم على الأشياء والنظائر، فالاقتداء يحب أن يقف عند حدود هذه الحقبة وإطارها التاريخي ولا يتعداها إلى حدود مختلف عليها، كما أن أي استهانة بهذه السيرة والسنة لا يزيد وضعنا إلا سوءاً، ويضعنا أمام خيار الالتجاء إلى تقليد آخرين لا يمتون إلى وقعنا الإسلامي بصلة قريبة أو بعيدة.
دعوة لإحياء الذاكرة أولا
كمرحلة أولى نحن بأمس الحاجة إلى تنشيط الذاكرة وتخزينها بأكبر كمية من المعلومات والأحداث وخصوصاً تلك التي ترتبط بواقع امتنا وتنمي فيها روح التحمل والمثابرة لتحقيق أهدافها.
فالغالبية ما زالت تجهل ابسط المعلومات عن رسول الإسلام(ص) ، وحتى الذين يفتخرون بأنهم يحيطون بكل الجوانب التي عاشها النبي الأكرم(ص) كثيراً ما يبالغون فيما يحملون، ولو دققنا جيداً في جعبهم لرأيناها تحوي معلومات ضحلة أو محرفة صاغتها بعض الجهات الدخيلة والمريضة لتشويه الصورة النقية لنبي الإسلام محمد(ص) .
فهذه مناهج مدارسنا وجامعاتنا وعقول رجال إعلامنا وخطبائنا لو فتشنا مخزونها وتجولنا في ذاكرتها بتأني لما وجدنا فيها غير زوايا ضيقة جداً متناثرة هنا وهناك لا تفتح إلا في مناسبات خاصة وخاطفة. في حين أننا لو بحثنا عن هوامش الأشياء وطفيلياتها في ذاكرة عموم الأمة لأمكننا الحصول على سيل عظيم من المعلومات، وبعض هذه المعلومات ساعدت بصورة أو بأخرى على عزل تاريخ الأمة الناصح في زوايا النسيان وقلبت الحقائق واخفت العديد من المعلومات الحيوية.
لذا يجدر بنا أولا وقبل كل شيء تفتيت كتل المعلومات السلبية والهامشية واحياء ذاكرتنا وتنشيطها بمعلومات إضافية دقيقة..
ودعوة للإقتداء ثانياً:
لا شك أن المعلومات جيدة إن هي صبت في اتجاه العمل والسلوك الحياتي فالحق تعالى يقول: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) الأحزاب، 21، وفي آية أخرى يقول سبحانه عن لسان النبي(ص) : ( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل عمران 31، وإلا نكون كالذي يحمل أسفارا وهو لا يعمل بها أو ذلك الذي يحفظ القرآن ويتلوه بدون وعي أو تدبر واتباع فيلعنه الله والتاريخ، (رب تال للقرآن والقرآن يلعنه)(1).
المطلوب منا جميعاً تلمس الضوء في حياة النبي(ص) لنقف عندها طويلاً قبل استنباط الأحكام واتخاذ المواقف، فكل وقفه في حياته(ص) فيها من العبر والدروس الشيء الكثير ولا يمكن تخطيها بسهولة والعبور من حولها أو تركها جانباً ــ بحجة فيها ما يخالف أذواقنا وطموحاتنا ــ أنها سلسلة مترابطة تكمل بعضها البعض، إنها منهاج حياة علينا اقتناء أثرها والتأسي بها واتباعها خطوة خطوة دون التفريط بجزئياتها.
فالكثير من الجزئيات هي في الحقيقة قواعد ثابتة وسنن خالدة ترسم لنا طرق العمل ومناهج التحرك على مختلف الصعد، فليس سنة النبي(ص) منحصرة في طريقته في الحياة الفردية والاجتماعية أو أسلوبه في نظام الحكم فقط وإنما السنة تشمل كل حركة وسكنة وهمسة بل وحتى نظرات عينيه(ص) واشارات حاجبيه، وقصته(ص) مع عبد الله بن سعد درس عملي لكل القادة، وذلك عندما دخل عليه عبد الله بن سعد مع عثمان بن عفان وكان النبي قد أهدر دم عبد الله فقال النبي لمن حوله لماذا لم يقم بعضكم فيضرب عنقه فقال له رجل من الأنصار: فهلا أومأت يا رسول الله؟ قال(ص) (إن النبي لا يقتل بالإشارة)(2) من عينيه أو حاجبيه، فخائنة الأعين محرمة على الأنبياء.
[/color]