خامساًوقد يقف القارئ لهذه الأحاديث متعجباً حائراً من شدة وضوح هذه الألفاظ في طهارة آباء وأعمام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد يقف ضاحكاً لشدة جهل من رموا أبا طالب بالكفر!! فكيف يكون هذا الرجل كافراً نجساً (إنّما المشركون نجس) ويقول عنه الرسول بأنّه من أصلاب شامخة طاهرة؟ فهل يصح أن يجتمع الكفر والطهارة؟
تاسعاً: خطبته في زواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا انقلها لك هنا من كتاب الخنيزي في ص 126 من كتاب أبو طالب مؤمن قريش وهو ينقلها عن عدة مصادر منها السيرة النبوية ج 1 والحلبية وشرح ابن أبي حديد: ج 3.
وإليك مقدار الحاجة من هذه الخطبة كما نقلها الشيخ الخنيزي:
(الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وصئفئ معدّ (الأصل) وعنصر مضرَ وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحزماً آمناً وجعلنا حكام الناس.
ثم أنّ ابن أخي هذا ـ محمد بن عبد الله ـ لا يوزن برجل إلاّ رجح به شرفاً ونبلاً وعقلاً.. فإن كان في المال قلّ فإن المال ظلٌّ زائل وأمر حائل وعارية مستوجعة ومحمّد من قد عرفتم قرابته.... وقد خطب خديجة بنت خويلد ويذل لها ما أجله وعاجله.. كذا...، وهو والله ـ بعد هذا ـ له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم).
هذه الخطبة من أبي طالب تدلنا على شيئين ونلمس منها ظاهرتين يُقرها أبو طالب:
لقد افتتح مقاله بحمد الله الذي جلعهم من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل فلم تنل منهم الوثنية المنحطة ولم تدنسهم بأوضارها... فكانوا عنصراً ممتداً، وإشعاعهً باقية تتصل بالنور الأوّل وتبقى رمزاً أبدياً ودعوة ممتدة للحنيفية البيضاء...
وإنّ هذه الظاهرة التي امتازوا بها جعلت منهم حضنة البيت الحرام الذي شاده ـ بأمر عن الله ـ أبوهم الخليل.. فهم ـ وحدهم ـ وسواس الحرم... وبذلك كانوا حكّام الناس، غير أنّ هذا كلّه ليس غير مقدمة لما بعده، فراح يشيد بقيمة ابن أخيه المعنوية فهو: الكميل من يين هؤلاء كلهم والراجح الكفّه في ميزان القيم والمعنويات فيلس من يدانيه ـ بل هو يرجحه ـ في صفاته ومزاياه...
وهو بعد هذا ـ سيبلغ ما لم يبلغه اليوم... افله بعد هذا ـ ويُقسم عندئذٍ بالله... وللقسم هنا معناه وقيمته في ما يذهب إليه، فله شأن عظيم وخطر جسيم، وليأمل غير اختياره لعبء الرسالة وهداية البشر ليختم صفحة النبوة بنظر على اشعاع سنى واشراق حرف.
عاشراً: جنازته رضي الله عنه نقد نقل أبو الفضل بن شاذان وآخرون عن المفيد قال: لما مات أبو طالب رحمه الله أتى أمير المؤمنين علي عليه السلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأذنه بموته فتوجع (النبي) توجعاً عظيماً وحزن حزناً شديداً (واذكر أني عندما كنت ادرس في المدارس الاكاديمية السنية) كانوا يعلموننا بأن ذلك العام سمي بعام الحزن لشدة حزن النبي على عمه"، ثم قال لأمير المؤمنين عليه السلام:
" امض يا علي فتول أمره وتول غسله وتحنيطه وتكفينه، فإذا رفعته على سريره فأعلمي، ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فلما رفعه على السرير اعترضه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فرق وتحزن، وقال: وصلتك رحم وجزيت خيراً يا عم، فلقد ربيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبيراً، ثم أقبل على الناس وقال: أم والله لأشفعن لعمي شفعة يعجب بها أهل الثقلين" (ويمكنك أن تراجع لذلك أسنى المطالب لابن عساكر، دلالة النبوة، وشرح النهج) .
فهذا الحديث فيه دلالات ودلالات على منزلة ومقام أبي طالب، إلاّ أنّ أبرزها هو.
1 ـ أمر النبي أمير المؤمنين أن يجهزه ويفعل به ما يفعل بأموات المسلمين، وهذا الأمر والموقف يقطعان أي لقلقة بأنّ أبا طالب مات كافراً فهذا الحديث يمنع ما يمكن أن يقال : من أن ما ذُكر من علامات على إيمانه لا تنفي أنّه رفض الشهادة في احتضاره وأنّه مات يعد ذلك كافراً، حيث أنّ أي قائل بهذا القول سيصطدم بالحديث أعلاه ، لأن أمر النبي لأمير المؤمنين بهذا الأمر يدل على أنّ أبا طالب مات مؤمناً لذلك استحق أن يحزن عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأنّ يفعل به بعد موته ما يفعله بباقي المسلمين.
2 ـ ذيل الحديث الذي يحوي كلاماً عجيباً وعظيماً قاله أعظم الخلق ووعد به، إننا نجد أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقسم بأنّه سيشفع بعمه شفاعة يعجب بها أهل الثقلين!! وأي وسام هذا الذي تشرف به أبو طالب بعد هذا القسم وأي منزلة له حتى يقول فيه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما قاله؟ لكن الحقد الأعمى في النواصب المخالفين جعلهم يتشدقون بهذه الاتهامات لهذا العظيم بأنّه مات كافراً ليشفوا غليلهم في ابنه أمير المؤمنين لكن مثلهم كمثل الغريق حين يتمسك بالورق الطليق.
الأحاديث التي تطعن في أبي طالب:
لقد أشرت قبل سطور إلى شدة ضعف ما تمسك به من يقول بكفر أبي طالب ولعل أبرز ما يتمسكون به هو حديث الضحضاح الذي ذكره البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه ومسند أحمد وتاريخ ابن كثير وبعض المصادر الأخرى نقلوا عدة صيغ وأحاديث هذا المعنى منها:
1 ـ عن ابن عباس: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو منشعل بشعلين يغلي منهما دماغه.
2 ـ عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذُكر عنده عمّه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامه فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كفيه يغلي منه دماغه.انتهى
لكن كل أمثال هذه الروايات ضعيفة السند، ولعل أبرز من يرويها وأولهم ابن أبي عمر وهو مجهول، وسفيان الثوري ذلك الكذاب الأثيم الذي أقر كذبه الذهبي في ميزان الاعتدال، وكذلك يروي هذا الحديث عبد الملك بن عمير الذي طال عمره وساء حفظه فقال الإمام أحمد فيه: ضعيف يغلط وقال ابن حبان: كان مدلساً . وأشباه هؤلاء من كذاب ومجهول هم الأساس في نقل هذه الخزعبلات على أبي طالب، ويمكنك أن تراجع في ذلك كتاب الغدير الجزء الثامن لتدرك من طعن في من؟؟!! وهل نعود لكفر أبي طالب على حثالة من الفسقة والكذابين؟
ونعم ما تفضل به الإمام شمس الدين في كتابه الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب حيث قال بعد أن استعرض بعضاً من أمثال أحاديث الضحضاح قال: فإنّ هذه الأحاديث المتضمنة أنّ أبا طالب في ضحضاح من نار مختلفة أصلها واحد، وراويها منفرد بها لأنّها جميعاً تستند إلى المغيرة بن شعبة السقفي لا يروي أحد منها شيئاً سواه وهو رجل ظنين في حق بني هاشم متهم فيما يرويه عنهم لأنّه معروف بعداوتهم مشهور ببغضه لهم والانحراف عنهم ،انتهى كلامه .
وفي حاشية النص يُنقل عن ابن أبي الحديد تأييد لهذا الكلام ج 2 (قالوا وأمّا حديث الضحضاح من النار فإنّما يرويه الناس كلّهم عن رجل واحد وهو المغيرة بن شعبة، وبغضه لبني هاشم وعلى الخصوص لعلي عليه السلام مشهور معلوم وقصته وفسقه غير خاف).
استدراك: لعل هذه السطور جمعت بعض الأدلّة على إيمان أبي طالب إلاّ أنّه من الجفاء أن أختمها دون أن أخط بعضاً من أبياته رضي الله عنه والتي هي مقطوعة الصدور عنه ولا يمكن التشكيك في نسبتها له وإليك بعضاً منها:
1 ـ قال بعد أن زعموا أنّ الرسول ساحر:
زعمت قريش أن أحمد ساحر كذبوا ورب الراقصات (الإبل الراكضه) إلى الحرم
مازلت اُعرفه بصدق حديثه وهو الأمين على الحرائب والحرم
2 ـ اقراره رضي الله عنه بالتوحيد الخالص !!:
مليك الناس ليس له شريك هو الجبار والمبدي المعيد
ومن فوق السماء له بحق ومن تحت السماء له عبيد
3 ـ تصريحه بعقيدته:
فما زال في الدنيا جمالاً لأهلها وشيناً لمن عادى وزين المحافل
حليماً رشيداً حازماً غير طائش يوالي إله الخلق ليس بما حل
فأيّده ربُ العباد بنصره وأظهر دينا حقه غير باطل
يقول المفيد بعد استعراض الأبيات: ومن تأمل هذا المدح عرف منه صدق ولاء صاحبه لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واعترافه بنبوته وإقراره بحقه فيما أتي به، إذ لا فرق بين أن يقول محمد نبيٌ صادق، وما دعا إليه حق صحيح واجب وبين قوله: فأيده رب العباد بنصره... وأظهر ديناً حقه غير باطل، وفي هذا البيت إقرار بالتوحيد صريح واعتراف لرسول الله بالنبوة صحيح.والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطيبين الطا هرين وعجل فر قا ئم ال محمد .
السيد شاكر الحسني